سورة الأنبياء - تفسير تفسير القرطبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنبياء)


        


{وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ (51) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ (52) قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ (53) قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (54) قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ (55) قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56)}
قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ} قال الفراء: أي أعطيناه هداه. {مِنْ قَبْلُ} أي من قبل النبوة، أي وفقناه للنظر والاستدلال، لما جن عليه الليل فرأى النجم والشمس والقمر.
وقيل: {من قبل} أي من قبل موسى وهرون. والرشد على هذا النبوة. وعلى الأول أكثر أهل التفسير، كما قال ليحيى: {وآتيناه الحكم صبيا} [مريم: 12].
وقال القرظي: رشده صلاحه. {وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ} أي إنه أهل لإيتاء الرشد وصالح للنبوة. قوله تعالى: {إِذْ قالَ لِأَبِيهِ} قيل: المعنى أي اذكر حين قال لأبيه، فيكون الكلام قد تم عند قوله: {وكنا به عالمين}.
وقيل: المعنى، {وكنا به عالمين إذ قال} فيكون الكلام متصلا ولا يوقف على قوله: {عالِمِينَ}. {لِأَبِيهِ} وهو آزر {وَقَوْمِهِ} نمرود ومن اتبعه. {ما هذِهِ التَّماثِيلُ} أي الأصنام. والتمثال اسم موضوع للشيء المصنوع مشبها بخلق من خلق الله تعالى. يقال: مثلت الشيء بالشيء أي شبهته به. واسم ذلك الممثل تمثال. {الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ} أي مقيمون على عبادتها. {قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ} أي نعبدها تقليدا لاسلافنا. {قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} أي في خسران بعبادتها، إذ هي جمادات لا تنفع ولا تضر ولا تعلم. {قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ} أي أجاء أنت بحق فيما تقول؟ {أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ} أي لاعب مازح. {قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} أي لست بلاعب، بل ربكم والقائم بتدبيركم خالق السموات والأرض. {الَّذِي فَطَرَهُنَّ} أي خلقهن وأبدعهن. {وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} أي على أنه رب السموات والأرض. والشاهد يبين الحكم، ومنه {شَهِدَ اللَّهُ} [آل عمران: 18] بين الله، فالمعنى: وأنا أبين بالدليل ما أقول.


{وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58)}
قوله تعالى: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ} أخبر أنه لم يكتف بالمحاجة باللسان بل كسر أصنامهم فعل واثق بالله تعالى، موطن نفسه على مقاساة المكروه في الذب عن الدين. والتاء في {تَاللَّهِ} تختص في القسم باسم الله وحده، والواو تختص بكل مظهر، والباء بكل مضمر ومظهر. قال الشاعر:
تالله يبقى على الأيام ذو حيد *** بمشمخر به الظيان والآس
وقال ابن عباس: أي وحرمة الله لأكيدن أصنامكم، أي لأمكرن بها. والكيد المكر. كاده يكيده كيدا ومكيدة، وكذلك المكايدة، وربما سمى الحرب كيدا، يقال: غزا فلان فلم يلق كيدا، وكل شيء تعالجه فأنت تكيده. {بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ} أي منطلقين ذاهبين. وكان لهم في كل سنة عيد يجتمعون فيه، فقالوا لإبراهيم: لو خرجت معنا إلى عيدنا أعجبك ديننا- روى ذلك عن ابن مسعود على ما يأتي بيانه في والصافات- فقال إبراهيم في نفسه: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ}. قال مجاهد وقتادة: إنما قال ذلك إبراهيم في سر من قومه، ولم يسمعه إلا رجل واحد وهو الذي أفشاه عليه. والواحد يخبر عنه بخبر الجمع إذا كان ما أخبر به مما يرضى به غيره. ومثله {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} [المنافقون: 8].
وقيل: إنما قاله بعد خروج القوم، ولم يبق منهم إلا الضعفاء فهم الذين سمعوه. وكان إبراهيم احتال في التخلف عنهم بقوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 89] أي ضعيف عن الحركة. قوله تعالى: {فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً} أي فتاتا. والجذ الكسر والقطع، جذذت الشيء كسرته وقطعته. والجذاذ والجذاذ ما كسر منه، والضم أفصح من كسره. قاله الجوهري. الكسائي: ويقال لحجارة الذهب جذاذ، لأنها تكسر. وقرأ الكسائي والأعمش وابن محيصن: {جذاذا} بكسر الجيم، أي كسرا وقطعا جمع جذيذ وهو الهشيم، مثل خفيف وخفاف وظريف وظراف. قال الشاعر:
جذذ الأصنام في محرابها *** ذاك في الله العلي المقتدر
الباقون بالضم، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم. مثل الحطام والرفات الواحدة جذاذة. وهذا هو الكيد الذي أقسم به ليفعلنه بها. وقال: {فَجَعَلَهُمْ}، لان القوم اعتقدوا في أصنامهم الإلهية. وقرأ ابن عباس وأبو نهيك وأبو السمال: {جذاذا} بفتح الجيم، والفتح والكسر لغتان كالحصاد والحصاد. أبو حاتم: الفتح والكسر والضم بمعنى، حكاه قطرب. {إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ} أي عظيم الآلهة في الخلق فإنه لم يكسره.
وقال السدي ومجاهد: ترك الصنم الأكبر وعلق الفأس الذي كسر به الأصنام في عنقه، ليحتج به عليهم. {لعلهم إليه} أي إلى إبراهيم دينه {يَرْجِعُونَ} إذا قامت الحجة عليهم.
وقيل: {لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ} أي إلى الصنم الأكبر {يَرْجِعُونَ} في تكسيرها.


{قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ (60) قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61)}
قوله تعالى: {قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ} المعنى لما رجعوا من عيدهم ورأوا ما أحدث بآلهتهم، قالوا على جهة البحث والإنكار: {مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ}.
وقيل: {مَنْ} ليس استفهاما، بل هو ابتداء وخبره {لَمِنَ الظَّالِمِينَ} أي فاعل هذا ظالم. والأول أصح لقوله: {سمعنا فتى يذكرهم} وهذا هو جواب {مَنْ فَعَلَ هذا}. والضمير في {قالُوا} للقوم الضعفاء الذين سمعوا إبراهيم، أو الواحد على ما تقدم. ومعنى {يَذْكُرُهُمْ} يعيبهم ويسبهم فلعله الذي صنع هذا. واختلف الناس في وجه رفع إبراهيم، فقال الزجاج: يرتفع على معنى يقال له هو إبراهيم، فيكون خبر مبتدإ محذوف، والجملة محكية. قال: ويجوز أن يكون رفعا على النداء وضمة بناء، وقام له مقام ما لم يسم فاعله.
وقيل: رفعه على أنه مفعول ما لم يسم فاعله، على أن يجعل إبراهيم غير دال على الشخص، بل يجعل النطق به دالا على بناء هذه اللفظة أي يقال له هذا القول وهذا اللفظ، وهذا كما تقول زيد وزن فعل، أو زيد ثلاثة أحرف، فلم تدل بوجه الشخص، بل دللت بنطقك على نفس اللفظة وعلى هذه الطريقة تقول: قلت إبراهيم، ويكون مفعولا صحيحا نزلته منزلة قول وكلام، فلا يتعذر بعد ذلك أن يبني الفعل فيه للمفعول. هذا اختيار ابن عطية في رفعه.
وقال الأستاذ أبو الحجاج الإشبيلي الأعلم: هو رفع على الإهمال. قال ابن عطية: لما رأى وجوه الرفع كأنها لا توضح المعنى الذي قصدوه، ذهب إلى رفعه بغير شي، كما قد يرفع التجرد والعرو عن العوامل الابتداء. والفتى الشاب والفتاة الشابة.
وقال ابن عباس: ما أرسل الله نبيا إلا شابا. ثم قرأ: {سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ}. قوله تعالى: {قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ} فيه مسألة واحدة، وهي: أنه لما بلغ الخبر نمروذ وأشراف قومه، كرهوا أن يأخذوه بغير بينة، فقالوا: ائتوا به ظاهرا بمرأى من الناس حتى يروه {لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ} عليه بما قال، ليكون ذلك حجة عليه.
وقيل: {لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ} عقابه فلا يقدم أحد على مثل ما أقدم عليه. أو لعل قوما {يَشْهَدُونَ} بأنهم رأوه يكسر الأصنام، أو {لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ} طعنه على آلهتهم ليعلموا أنه يستحق العقاب. قلت: وفي هذا دليل على أنه كان لا يؤاخذ أحد بدعوى أحد فيما تقدم، لقوله تعالى: {فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ} وهكذا الامر في شرعنا ولا خلاف فيه.

3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10